فصل: تفسير الآيات (101- 102):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (101- 102):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)}
{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى تِسْعَ ءايات بَيّنَاتٍ} واضحاتِ الدِلالة على نبوته وصِحّةِ ما جاء به من عند الله وهي العَصا واليدُ والجَرادُ والقُمّل والضفادعُ والدمُ والطوفانُ والسّنونَ ونقصُ الثمرات، وقيل: انفجارُ الماء من الحجر ونتْقُ الطورِ على بني إسرائيلَ وانفلاقُ البحرِ بدل الثلاث الأخيرة، ويأباه أن هذه الثلاثَ لم تكن منزلةً إذ ذاك وأن الأولَين لا تعلقَ لهما بفرعون وإنما أوتيهما بنو إسرائيلَ، وعن صفوانَ بن عسّال أن يهودياً سألَ النبي عليه الصلاة والسلام عنها فقال: «ألا تشركوا به شيئاً ولا تسرِقوا ولا تزنوا، ولا تقتُلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسحرَوا ولا تأكُلوا الربا، ولا تمشوا ببريءٍ إلى ذي سلطان ليقتُله ولا تقذِفوا مُحصنةً ولا تفِرّوا من الزحف، وعليكم خاصّةَ اليهودِ أن لا تعْدوا في السبت» فقبّل اليهوديُّ يدَه ورجلَه عليه السلام، ولا يساعده أيضاً ما ذكر ولعل جوابَه عليه السلام بذلك لما أنه المُهم للسائل وقبولُه لما أنه كان في التوراة مسطوراً، وقد علِم أنه ما علمه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلا من جهة الوحي.
{فاسأل بَنِى إسراءيل} وقرئ: {فسَلْ} أي فقلنا له: سلْهم من فرعون، وقل له: أرسلْ معيَ بني إسرائيلَ أو سلهم عن إيمانهم أو عن حال دينِهم أو سلْهم أن يعاضدوك، ويؤيده قراءةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على صيغة الماضي، وقيل: الخطابُ للنبي عليه الصلاة والسلام أي فاسألهم عن تلك الآياتِ لتزدادَ يقيناً وطُمَأْنينةً أو ليظهر صِدقُك {إِذْ جَاءهُمُ} متعلق بقلنا وبسأل على القراءة المذكورةِ وبآتينا أو بمضمر هم يخبروك أو اذكر على تقدير كونِ الخطابِ للرسول عليه الصلاة والسلام {فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ} الفاءُ فصيحةٌ أي فأظهرَ عند فرعون ما آتيناه من الآيات البيناتِ وبلّغه ما أُرسل به، فقال له فرعونُ: {إِنّى لاظُنُّكَ ياموسى مَّسْحُورًا} سُحرْت فتخبّط عقلك.
{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء} يعني الآياتِ التي أظهرها {إِلاَّ رَبُّ السموات والأرض} خالقُهما ومدبرُهما، والتعرّضُ لربوبيته تعالى لهما للإيذان بأنه لا يقدِر على إيتاء مثلِ هاتيك الآياتِ العظامِ إلا خالقُهما ومدبّرهما {بَصَائِرَ} حالٌ من الآيات أي بيناتٍ مكشوفاتٍ تُبصّرك صدقي ولكنك تعاند وتكابر، نحوُ: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ} ومن ضرورة ذلك العلمِ العلمُ بأنه عليه الصلاة والسلام على كمال رصانةِ العقلِ فضلاً عن توهم المسحورية، وقرئ: {علمتُ} على صيغة التكلمِ أي لقد علمتُ بيقين أن هذه الآياتِ الباهرةَ أنزلها الله عز سلطانه فكيف يُتوهم أن يحومَ حولي سحر {وَإِنّى لاظُنُّكَ يافرعون مَثْبُورًا} مصروفاً عن الخير مطبوعاً على الشر، من قولهم: ما ثبَرك عن هذا أي ما صرفك، أو هالكاً ولقد قارع عليه السلام ظنَّه بظنه وشتان بينهما، كيف لا وظنُّ فرعونَ إفكٌ مُبينٌ وظنُّه عليه الصلاة والسلام يتاخم اليقين.

.تفسير الآيات (103- 107):

{فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)}
{فَأَرَادَ} أي فرعون {أَن يَسْتَفِزَّهُم} أي يستخِفَّهم ويُزعجَهم {مّنَ الأرض} أرضِ مصرَ أو من الأرض مطلقاً بالقتل كقوله: {سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ} {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا} فعكسنا عليه مكرَه واستفززناه وقومَه بالإغراق.
{وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ} من بعد إغراقِهم {لِبَنِى إسراءيل اسكنوا الأرض} التي أراد أن يستفزّكم منها {فَإِذَا جَاء وَعْدُ الأخرة} الكرةُ الآخرةُ أو الحياةُ أو الساعةُ والدارُ الآخرة أي قيامُ القيامة {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} مختلطين إياكم وإياهم ثم نحكُم بينكم ونميز سعداءَكم من أشقيائكم واللفيفُ الجماعاتُ من قبائلَ شتى.
{وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} أي وما أنزلنا القرآنَ إلا ملتبساً بالحق المقتضي لإنزاله وما نزل إلا ملتبساً بالحق الذي اشتمل عليه، أو ما أنزلناه من السماء إلا محفوظاً وما نزل على الرسول إلا محفوظاً من تخليط الشياطينِ، ولعل المرادَ بيانُ عدم اعتراءِ البطلان له أولَ الأمرَ وآخرَه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا} للمطيع بالثواب {وَنَذِيرًا} للعاصي من العقاب، وهو تحقيقٌ لحقية بعثتِه عليه الصلاة والسلام إثرَ تحقيقِ حقية إنزالِ القرآن.
{وَقُرْءانًا} منصوب بمضمر يفسّره قوله تعالى: {فَرَقْنَاهُ} وقرئ بالتشديد دَلالةً على كثرة نجومِه {لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ} على مَهل وتثبُّتٍ فإنه أيسرُ للحفظ وأعونُ على الفهم، وقرئ بالفتح وهو لغة فيه {ونزلناه تَنْزِيلاً} حسبما تقتضيه الحكمةُ والمصلحة ويقع من الحوادث والواقعات.
{قُلْ} للذين كفروا {ءَامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ} فإن إيمانَكم به لا يزيده كمالاً وامتناعَكم لا يورثه نقصاً {إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ} أي العلماءَ الذين قرأوا الكتبَ السالفةَ من قبل تنزيلِه وعرَفوا حقيقةَ الوحي وأماراتِ النبوةِ وتمكّنوا من التمييز بين الحقِّ والباطلِ والمُحقِّ والمبطلِ ورأوا فيها نعتَك ونعتَ ما أنزل إليك {إِذَا يتلى} أي القرآنُ {عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ} أي يسقطون على وجوههم {سُجَّدًا} تعظيماً لأمر الله تعالى أو شكراً لإنجاز ما وعد به في تلك الكتبِ من بعثتك، وتخصيصُ الأذقانِ بالذكر للدِلالة على كمال التذللِ إذ حينئذ يتحقق الخُرور عليها، وإيثارُ اللام للدِلالة على اختصاص الخُرور بها كما في قوله:
فخرَّ صريعاً لليدين وللفمِ

وهو تعليلٌ لما يفهم من قوله تعالى: {ءَامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ} من عدم المبالاة بذلك أي إن لم تؤمنوا به فقد آمن به أحسنَ إيمانٍ مَنْ هو خيرٌ منكم، ويجوز أن يكون تعليلاً لقُلْ على سبيل التسليةِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قيل: تسلَّ بإيمان العلماءِ عن إيمان الجهلةِ ولا تكترث بإيمانهم وإعراضِهم.

.تفسير الآيات (108- 110):

{وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)}
{وَيَقُولُونَ} في سجودهم {سُبْحَانَ رَبّنَا} عما يفعل الكفرةُ من التكذيب أو عن خُلْف وعده {إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً} إن مخففةٌ من المثقّلة، واللامُ فارقةٌ أي إن الشأن هذا.
{وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ} كرر الخُرورَ للأذقان لاختلاف السبب فإن (الأولَ) لتعظيم أمر الله تعالى أو الشكرِ لإنجاز الوعدِ (والثاني) لِما أثّر فيهم من مواعظ القرآنِ حالَ كونِهم باكين من خشية الله {وَيَزِيدُهُمْ} أي القرآنُ بسماعهم {خُشُوعًا} كما يزيدهم علماً ويقيناً بالله تعالى.
{قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} نزل حين سمع المشركون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا ألله يا رحمن» فقالوا: إنه ينهانا عن عبادة إلهين وهو يدعو إلها آخرَ. وقالت اليهود: إنك لتُقِلّ ذكرَ الرحمن وقد أكثره الله تعالى في التوراة. والمرادُ على الأول هو التسويةُ بين اللفظين بأنهما عبارتان عن ذات واحدةٍ وإن اختلف الاعتبارُ والتوحيدُ إنما هو للذات الذي هو المعبودُ، وعلى الثاني أنهما سيّان في حسن الإطلاقِ والإفضاء إلى المقصود وهو أوفق لقوله تعالى: {أَيّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسماء الحسنى} والدعاءُ بمعنى التسمية وهو يتعدى إلى مفعولين حُذف أولُهما استغناءً عنه، وأو للتخيير والتنوينُ في أياً عوضٌ عن المضاف إليه وما مزيدةٌ لتأكيد ما في أي من الإبهام، والضميرُ في له للمسمّى لأن التسميةَ له لا للاسم وكان أصلُ الكلامِ أياً ما تدعوا فهو حسنٌ فوضع موضعَه فله الأسماءُ الحسْنى للمبالغة والدِلالة على ما هو الدليلُ عليه، إذ حسنُ جميعِ أسمائِه يستدعي حسنَ ذينك الاسمين وكونُها حُسنى لدلالتها على صفات الكمالِ من الجلال والجمال والإكرام.
{وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أي بقراءة صلاتِك بحيث تُسمع المشركين فإن ذلك يحملهم على السب واللغوِ فيها {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} أي بقراءتها بحيث لا تُسمع من خلفك من المؤمنين {وابتغ بَيْنَ ذلك} أي بين الجهرِ والمخافتة على الوجه المذكور {سَبِيلاً} أمراً وسَطاً قصْداً فإن خيرَ الأمور أوساطُها، والتعبيرُ عن ذلك بالسبيل باعتبار أنه أمرٌ يتوجه إليه المتوجهون ويؤُمّه المقتدون ويوصلُهم إلى المطلوب، وروي أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان يخفِت ويقول: أناجي ربي وقد علم حاجتي، وعمر رضي الله عنه كان يجهر بها ويقول: أطرُد الشيطان وأوقظ الوسْنان، فلما نزلت أمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يرفعَ قليلاً وعمرَ أن يخفِض قليلاً، وقيل: المعنى لا تجهَرْ بصلاتك كلِّها ولا تخافت بها بأسرها وابتغِ بين ذلك سبيلاً بالمخافتة نهاراً والجهرِ ليلاً، وقيل: بصلاتك بدعائك وذهب قوم إلى أنها منسوخةٌ بقوله تعالى: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}

.تفسير الآية رقم (111):

{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)}
{وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} كما يزعم اليهودُ والنصارى وبنو مليح، حيث قالوا: عزيرٌ ابنُ الله والمسيحُ ابنُ الله والملائكةُ بناتُ الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً {وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك} أي الألوهيةِ كما يقوله الثنويةُ القائلون بتعدد الآلهة {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِىٌّ مَّنَ الذل} ناصرٌ ومانعٌ منه لاعتزازه، أو لم يوالِ أحداً من أجل مذلةٍ ليدفعها به، وفي التعرض في أثناء الحمدِ لهذه الصفاتِ الجليلة إيذانٌ بأن المستحقَّ للحمد مَنْ هذه نعوتُه دون غيره، إذ بذلك يتم الكمالُ والقُدرةُ التامةُ على الإيجاد، وما يتفرّع عليه من إفاضة أنواعِ النعم وما عداه ناقصٌ مملوكٌ نعمةٌ أو منقماً عليه، ولذلك عُطف عليه قولُه تعالى: {وَكَبّرْهُ تَكْبِيرًا} وفيه تنبيهٌ على أن العبدَ وإن بالغ في التنزيه والتمجّد واجتهد في الطاعة والتحميد ينبغي أن يعترِف بالقصور في ذلك. رُوي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أفصح الغلامُ من بني عبد المطلب علّمه هذه الآية الكريمة.
وعنه عليه الصلاة والسلام: «من قرأ سورةَ بني إسرائيلَ فرقّ قلبُه عند ذكرِ الوالدَين كان له قنطارٌ في الجنة» والقنطارُ ألفُ أوقية ومائتا أوقية والحمد لله سبحانه وله الكبرياء والعظمة والجبروت.

.سورة الكهف:

.تفسير الآيات (1- 2):

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)}
{الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ} محمد صلى الله عليه وسلم {الكتاب} أي الكتابَ الكاملَ الغنيَّ عن الوصف بالكمال المعروفِ بذلك من بين الكتبِ، الحقيقَ باختصاص اسمِ الكتابِ به، وهو عبارةٌ عن جميع القرآنِ أو عن جميع المُنْزَل حينئذ كما مر مراراً، وفي وصفه تعالى بالموصول إشعارٌ بعلّية ما في حيز الصلةِ لاستحقاق الحمدِ وإيذانٌ بعِظم شأنِ التنزيلِ الجليلِ، كيف لا وعليه يدور فَلكُ سعادةِ الدارين، وفي التعبير عن الرسول عليه الصلاة والسلام بالعبد مضافاً إلى ضمير الجلالةِ تنبيهٌ على بلوغه عليه الصلاة والسلام إلى أعلى معارجِ العبادةِ وتشريفٌ وإشعارٌ بأن شأنَ الرسولِ أن يكون عبداً للمرسِل لا كما زعمت النصارى في حق عيسى عليه السلام، وتأخيرُ المفعول الصريح عن الجار والمجرور مع أن حقه التقديمُ عليه ليتصل به قوله تعالى: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} أي شيئاً من العِوَج بنوع اختلالٍ في النظم وتَنافٍ في المعنى أو انحرافٍ عن الدعوة إلى الحق وهو في المعاني كالعِوَج في الأعيان، وأما قوله تعالى: {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} مع كون الجبالِ من الأعيان فللدِلالة على انتفاء ما لا يُدرك من العوج بحاسة البصر، بل إنما يوقف عليه بالبصيرة بواسطة استعمالِ المقاييسِ الهندسيةِ ولمّا كان ذلك مما لا يُشعَر به بالمشاعر الظاهرةِ عُدّ من قبيل ما في المعاني، وقيل: الفتحُ في اعوجاج المنتصِبِ كالعُود والحائِط، والكسرُ في اعوجاج غيرِه عيناً كان أو معنى.
{قَيِّماً} بالمصالح الدينيةِ والدنيويةِ للعباد على ما ينبىء عنه ما بعده من الإنذار والتبشيرِ فيكون وصفاً له بالتكميل بعد وصفِه بالكمال، أو على ما قبله من الكتب السماويةِ شاهداً بصِحتها ومهيمناً عليها أو متناهياً في الاستقامة، فيكون تأكيداً لما دل عليه نفيُ العِوج مع إفادة كونِ ذلك من صفاته الذاتيةِ اللازمةِ له حسبما تنبىء عنه الصيغةُ لا أنه نُفي عنه العوجُ مع كونه من شأنه، وانتصابُه على تقديرِ كونِ الجملةِ المتقدمةِ معطوفةً على الصلة بمضمر ينبىء عنه نفيُ العِوَج تقديرُه جعلَه قيماً، وأما على تقدير كونها حاليةً فهو على الحالية من الكتاب إذ لا فصلَ حينئذ بين أبعاضِ المعطوفِ عليه بالمعطوف وقرئ: {قيماً} {لّيُنذِرَ} متعلقٌ بأنزل والفاعلُ ضميرُ الجلالة كما في الفعلين المعطوفين عليه، والإطلاقُ عن ذكر المفعولِ الأول للإيذان بأن ما سيق له الكلامُ هو المفعولُ الثاني وأن الأولَ ظاهرٌ لا حاجةَ إلى ذكره، أي أنزل الكتابَ لينذر بما فيه الذين كفروا به {بَأْسًا} أي عذاباً {شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ} أي صادراً من عنده نازلاً من قِبله بمقابلة كفرِهم وتكذيبهم، وقرئ: {من لدْنِه} بسكون الدال مع إشمام الضمةِ وكسر النونِ لالتقاء السَاكنين وكسر الهاءِ للإتباع {وَيُبَشّرُ} بالتشديد وقرئ بالتخفيف {المؤمنين} أي المصدقين به {الذين يَعْمَلُونَ الصالحات} الأعمالَ الصالحةَ التي بيّنت في تضاعيفه، وإيثارُ صيغةِ الاستقبال في الصلة للإشعار بتجدد الأعمالِ الصالحة واستمرارِها، وإجراءُ الموصولِ على موصوفه المذكورِ لما أن مدارَ قَبولِ الأعمالِ هو الإيمان {أَنَّ لَهُمْ} أي بأن لهم بمقابلة إيمانِهم وأعمالِهم المذكورة {أَجْرًا حَسَنًا} هو الجنةُ وما فيها من المثوبات الحُسنى.

.تفسير الآيات (3- 5):

{مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)}
{مَّاكِثِينَ} حال من الضمير المجرور في لهم {فِيهِ} أي في ذلك الأجر {أَبَدًا} من غير انتهاء أي خالدين فيه، وهو نصبٌ على الظرفية لماكثين، وتقديمُ الإنذار على التبشير لإظهار كمال العنايةِ بزجر الكفّارِ عما هم عليه مع مراعاة تقديمِ التخليةِ على التحلية، وتكريرُ الإنذار بقوله تعالى: {وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا} متعلقاً بفِرْقة خاصة ممن عمّه الإنذارُ السابقُ من مستحقي البأسِ الشديدِ للإيذان بكمال فظاعةِ حالِهم لغاية شناعةِ كفرِهم وضلالِهم، أي وينذرَ من بين سائر الكفرةِ هؤلاء المتفوّهين بمثل هاتيك العظيمةِ خاصة وهم كفارُ العرب الذين يقولون: الملائكةُ بناتُ الله تعالى، واليهودُ القائلون: عزيرٌ ابنُ الله، والنصارى القائلون: المسيحُ ابن الله، وتركُ إجراءِ الموصولِ على الموصوف كما فُعل في قوله تعالى: {وَيُبَشّرُ المؤمنين} للإيذان بكفاية ما في حيز الصلةِ في الكفر على أقبح الوجوه، وإيثارُ صيغةِ الماضي في الصلة للدِلالة على تحقق صدورِ تلك الكلمةِ القبيحة عنهم فيما سبق. وجعلُ المفعولِ المحذوفِ فيما سلف عبارةً عن هذه الطائفة يؤدي إلى خروج سائرِ أصنافِ الكفرة عن الإنذار والوعيدِ، وتعميمُ الإنذارِ هناك للمؤمنين أيضاً بحمله على معنى مجردِ الإخبارِ بالخبر الضارِّ من غير اعتبار حُلول المنذَرِ به على المنذَر كما في قوله تعالى: {أَنْ أَنْذِر الناس وَبَشر الذين ءَامَنُواْ} يُفضي إلى خلوّ النظمِ الكريم عن الدلالة على حلول البأسِ الشديدِ على مَنْ عدا هذه الفرقةِ، ويجوز أن يكون الفاعلُ في الأفعال الثلاثة ضميرَ الكتاب أو ضميرَ الرسول عليه الصلاة والسلام.
{مَا لَهُمْ بِهِ} أي باتخاذه سبحانه وتعالى ولداً {مِنْ عِلْمٍ} مرفوعٌ على الابتداء أو الفاعلية لاعتماد الظرفِ، ومِن مزيدةٌ لتأكيد النفي والجملةُ حاليةٌ أو مستأنَفةٌ لبيان حالِهم في مقالهم، أي ما لهم بذلك شيءٌ من علم أصلاً لا لإخلالهم بطريقه مع تحقيق المعلومِ أو إمكانِه بل لاستحالته في نفسه {وَلاَ لأََبَائِهِمْ} الذين قلدوهم فتاهوا جميعاً في تيه الجهالةِ والضلالةِ أو ما لهم علمٌ بما قالوه أهو صوابٌ أم خطأٌ، بل إنما قالوه رمياً عن عمًى وجهالةٍ من غير فكر ورويّةٍ كما في قوله تعالى: {وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أو بحقيقة ما قالوه وبعظم رُتبتِه في الشناعة كما في قوله تعالى: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدَا تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} الآيات وهو الأنسب بقوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً} أي عظُمت مقالتُهم هذه في الكفر والافتراءِ لما فيها من نسبته سبحانه إلى ما لا يكاد يليق بجناب كبريائِه، والفاعلُ في كبُرت إما ضميرُ المقالةِ المدلولِ عليها بقالوا وكلمةً نُصبَ على التمييز أو ضميرٌ مبهمٌ مفسَّرٌ بما بعده من النكرة المنصوبةِ تمييزاً كبئس رجلاً، والمخصوصُ بالذم محذوفٌ تقديرُه كبُرت هي كلمةً خارجةً من أفواههم، وقرئ: {كبْرتْ} بإسكان الباء مع إشمام الضم، وقرئ كلمةٌ بالرفع {تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} صفةٌ للكلمة مفيدةٌ لاستعظام اجترائِهم على التفوه بها، وإسنادُ الخروجِ إليها مع أن الخارجَ هو الهواءُ المتكيفُ بكيفية الصوتِ لملابسته بها {إِن يَقُولُونَ} ما يقولون في ذلك الشأنِ {إِلاَّ كَذِبًا} أي إلا قولاً كذباً لا يكاد يدخُل تحت إمكانِ الصدق أصلاً، والضميران لهم ولآبائهم.
مُثّل حالُه عليه الصلاة والسلام في شدة الوجدِ على إعراض القومِ وتولّيهم عن الإيمان بالقرآن وكمالِ التحسّر عليهم بحال من يُتوقع منه إهلاكُ نفسِه إثرَ فواتِ ما يُحِبّه عند مفارقة أحبّتِه تأسفاً على مفارقتهم وتلهفاً على مهاجَرتهم، فقيل على طريقة التمثيلِ حملاً له عليه الصلاة والسلام على الحذر والإشفاق من ذلك: